نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
مسرحية "جرانتي العزيزة" للفاضل الجزيري: المسرح والموسيقى ذاكرة الشعوب الحيّة وتاريخها, اليوم الجمعة 29 نوفمبر 2024 09:18 مساءً
نشر في الشروق يوم 29 - 11 - 2024
تتواصل فعاليات أيام قرطاج المسرحية في دورتها الخامسة والعشرين، واحتضنت قاعة مسرح الجهات بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي مساء الخميس 28 نوفمبر، مسرحية "جرانتي العزيزة" إنتاج المسرح الوطني التونسي والمركز الثقافي جربة ومسرح الأوبرا تونس، المسرحية سينوغرافيا وإخراج فاضل الجزيري، نص ودراماتورجيا جماعي، أداء كل من إشراق مطر وسليم الذيب بمشاركة العازفين لطفي السافي على آلة التشيللو و إلياس بلاغي على آلة البيانو ومهدي ذاكر على آلة الكمنجة.
المسرح أو أبو الفنون وسمي هكذا لأنه يحتوي داخله عديد الفنون الأخرى مثل الرقص والتمثيل والكوريغرافيا والكتابة المسرحية والنقد، وعادة ما تتضمن المسرحيات مختلف هذه الفنون، كما هو شأن مسرحية "جرانتي العزيزة" التي كانت مزيجا من الغناء والموسيقى والرقص والتمثيل، ويعد المسرح أيضا ذاكرة الشعوب حيث يخبرنا التاريخ أن لا وجود لوطن عظيم دون ذاكرة مسرحية توثق له، وهو ما حاول فاضل الجزيري إثباته من خلال هذه العمل المسرحي، حيث وثق لتاريخ تونس منذ الإستقلال الى ما بعد ثورة 14 جانفي 2011 بالاعتماد على الموسيقى وقصة عازف كمنجة لفرقة الإذاعة الوطنية.
منذ الوهلة الأولى يخيّل اليك أنك أمام مسرحية غنائية حيث توزعت الآلات الموسيقية على الركح وتمركزت الميكروهات في الجزء الأمامي منه، ثم يقتحم خمسة أفراد هذا الفضاء أربعة رجال وامرأة. يؤدي إلياس بلاغي معزوفة على آلة البيانو، لتستهل إشراق مطر العرض وتخبرنا أننا أمام حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة وشهرزاد، وهنا يوهم فاضل الجزيري جمهوره أنه أمام "خرافة" سيروي لنا أطوارها طيلة العرض.
تروي مسرحية "جرانتي العزيزة" قصة عازف كمنجة يدعى ماهر على أبواب التقاعد بعد سنوات من العمل في فرقة الإذاعة الوطنية وخارجها مما جعله طرفا في عديد الأعمال الموسيقيّة والمسرحيّة وشاهدا على أكثر من نصف قرن من الإنتاج الأدبي والفنّي في تنوّعه.
بتهوفن أو ماهر عاشق الكمنجة يسرد ويجسّد على الركح مع رفيقة دربه وبحضور باقي العازفين خلاصة خبراته التي تعكس حقبة من تاريخ الفن والإبداع وبالتالي تاريخ البلاد وما طبع تلك الفترة من تجاذبات بين السياسي والإبداعي استقرّت في ذاكرة العازف وتركت ندوبا لا تُمحى.
ساعتان روى خلالهما ماهر كل المحطات السياسية التي مرت بها تونس منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، ولم يقتصر التاريخ الذي رواه ماهر على الجانب السياسي فحسب بل أيضا الفني وتطوره وكيف ارتبط الفن بالسياسة في كل هذه المحطات ولعّل الجملة التي نطق بها خلال العرض تلخص هذه الحقيقة "الإذاعة والداخلية واحد " .
في هذه المسرحية يستحضر الجزيري عديد الشخصيات السياسية المؤثرة في تاريخ تونس مسلطا الضوء على كواليس هذا العالم وكيف تدار الأمور وتحاك فيه، وحتى لا يكون سرده لهذه الأحداث مملا أو روتينيا اختار إيصاله عن طريق الموسيقى والغناء مبينا أن لكل تاريخ وحقبة زمنية فنانيها ومبدعيها الذين عاصروا السياسيين وتقربوا منهم كل بطريقته .
تروي الشخصيات الخمس في مسرحية "جرانتي العزيزة" تاريخ تونس من خلال تجاربهم، حيث يقدمه ماهر من خلال تجربته في فرقة الاذاعة الوطنية الذي كانت عنصرا قارا في كل الأحداث السياسية الهامة بالبلاد بفنانيها وعازفيها، وتشاركه رفيقة دربه وزوجته سرد هذه الأحداث إما عن طريق الحوار المباشر بينهما أو الغناء حيث أدت إشراق مطر عديد الأغاني التي ارتبطت بكل حقبة من تاريخ تونس على غرار أغنية المرحوم الهادي قلّة "بابور زمّر خشّ البحر" وغيرها من الأغاني .
الغناء والعزف في مسرحية "جرانتي العزيزة" لم يكونا مجرد "موتيف" فني أو عنصر جمالي داخل سينوغرافيا العمل بل عبارة عن مونولوج درامي يشرح تدرج الأحداث داخل المسرحية، وهو ما يفسّر اعتماد الجزيري على عازفين محترفين وهم لطفي السافي على آلة التشيللو والذي كانت له مداخلات خفيفة وكوميدية في المسرحية إضافة الى مهدي ذاكر الذي كسر حاجز الملل بعزفه المحترف على آلة الكمنجة و المايسترو إلياس بلاغي الذي لم يكتف بالعزف بل شارك في سرد الأحداث مجسدا شخصية "عمدة" عازف البيانو الضرير .
ولم تخل مسرحية فاضل الجزيري من المشاعر الانسانية حيث شاهدنا ثنائية الحب والخيانة من خلال قصة ماهر وزوجته التي رافقته في كل مسيرته الحياتية والفنية لتقرر نهاية المسرحية تركه والتخلي عنه بعد أن خيّر "الجرانة" أو الكمنجة والأوبيرات عن حياتهما الزوجية .
تدفعك مسرحية "جرانتي العزيزة" للبحث وطرح عديد الأسئلة خاصة في علاقة الفن بالسياسة وهل كان لفرقة الاذاعة الوطنية دور في المشهد السياسي وهو ما جاء في أحد المشاهد التي تحدث فيها الشخصية الرئيسية عن انتهاء هذه الفرقة مجرّد ابتعادها عن عالم السياسة ( اليوم الفرقة فيها 6 او 7 عناصر يسجلون حضورهم ويتقاضون أجرا دون عناء ) .
في هذا العمل المسرحي حدّد الجزيري أسماء عديد الشخصيات الفاعلة في تاريخ تونس فتحدث عن أساتذة الكونسرفتوار من أحمد عاشور الذي درّس بالمعهد العالي للموسيقى وقاد الأوكسترا السيمفوني من سنة 1979 الى 2010 الى أستاذة بالمعهد على غرار "زلاطكا" و"ياروش" و"سترينو" الذي تتلمذ على يده رضا القلعي وتطرق الى سيرة عازفين كعبد الحميد بن علجية والسيد شطا ولم يفته ذكر عدد من المسرحيين كمحمد إدريس والحبيب بولعراس وقدم لمسة وفاء الى مدير التصوير الحبيب المسروقي الذي انتحر سنة 1980 عن عمر لم يتجاوز الثلاثين سنة .
كما تحدث الجزيري عن بورقيبة واليوسفيين و الهادي نويرة وأحمد بن صالح والشاذلي القليبي وعبد الرؤوف الباسطي ومجموعة بريسبكتيف وغيرهم من الشخصيات التي تركت بصمتها في المشهد الفني والسياسي في تونس وصولا الى مرحلة فرار بن علي واندلاع الثورة التي ربما عبر عنها فاضل الجزيري بمشهد تخلي الزوجة عن زوجها واختيارها للسعودية كمكان للاستقرار فيها .
"جرانتي العزيزة" مساعدة مخرج سامية بن عبد الله، أزياء جيهان بن عطية و إضاءة فيصل بن صالح أما موسيقى فلصابر القاسمي.
الأخبار
.