نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أب مجاهد وابن عظيم, اليوم السبت 23 نوفمبر 2024 09:11 صباحاً
حلت قبل أيام "15 نوفمبر 2024" ذكرى مرور 135 سنة على ميلاد عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.
من باب الاحتفال الشخصي بتلك المناسبة بحثت في تسجيلات الإذاعة المصرية القديمة على تسجيلات صوتية للعميد، فوقعت على تسجيل كان يتحدث فيه عن الصحابي الجليل الفاروق عمر بن الخطاب عليه رضوان الله.
أخذني صوت العميد، قبل أن يستولي عليّ ما كان يقوله.
صوت نادر له بصمة، صوت فخم رقيق ينساب كأنه جدول ماء، هو صوت عذب، يأتيك بالخير.
حضرني سؤال عن مقدرة العميد على الكلام.
لو كان مبصرًا لقلت إنه قد كتب الكلمة التي سيلقيها، وتدرب ساعات على الإلقاء، متى يتوقف ومتى يلتقط أنفاسه ومتى يتدفق ومتى يتوعد ومتى يعد.
لكن الرجل كما نعرف حرم من نعمة البصر منذ طفولته الباكرة، فمن أين له هذه القدرة على الارتجال دون تلعثم ولا توتر ولا ارتباك؟
لا شيء يفسر تمتعه بهذه المقدرة الفذة سوى إدمانه على القرآن الكريم.
قصة العميد مع القرآن تستحق أن تروى وتستحق أن نتوقف عندها.
وللحق فإن قصته مع القرآن هي قصة والده أولًا.
طه حسين هو طه بن حسين بن علي بن سلامة ولد بعد احتلال الإنجليز لمصر بسبع سنوات 1889 في محافظة المنيا بصعيد مصر، وكان كما نص هو: "سابعَ ثَلاثةَ عَشَرَ من أبناء أبيه، وخامسَ أحدَ عَشَرَ من أشِقَّته، وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانًا خاصًّا يمتاز من مكان إخوته وأخواته. أكان هذا المكان يُرضيه؟ أكان يُؤْذيه؟ الحقُّ أنه لا يتبيَّن ذلك إلا في غموضٍ وإبهام، والحق أنه لا يستطيع الآن أن يحكم في ذلك حكمًا صادقًا. كان يُحِسُّ من أُمِّه رحمةً ورأفةً، وكان يجد من أبيه لينًا ورفْقًا".
الوالد الكريم الشيخ حسين، كان كما عرفنا كثير العيال رقيق الحال، فما كان سوى موظف صغير بشركة السكر، ولكن هذا الموظف البسيط كان مولعًا بتعليم أولاده، نتحدث عن ولع بالتعليم في أيام سطوة الاحتلال، وأي احتلال هو أكبر معوق لأي عملية من عمليات التنمية، ولا تنمية بدون تعليم.
الرجل البسيط حرص على أن يعلم أولاده حتى أن أحدهم كان سيلتحق بكلية الطب ولم يمنعه من ذلك سوى موته مصابًا بالكوليرا بعد حصوله على الثانوية.
أما بالنسبة لطه فهو لظروف فقدانه لبصره فقد أرسله أبوه إلى الكُتّاب لكي يحفظ القرآن، وبعد الحفظ سيرسل به إلى الأزهر الشريف ليكون مع شقيق له سبق إلى الأزهر، وليحقق حلم الوالد في أن يصبح طه من علماء الأزهر.
وهو دون التاسعة حفظ طه القرآن كاملًا عن ظهر قلب، ولكنه نسيه عن قلب ظهر لو صح التعبير.
أب غير الشيخ حسين كان سيضيق بولده الذي يهمل الكتاب الكريم، ولكن الشيخ حسين أعاده إلى الكُتاب ثانية لكي يحفظ القرآن مرة ثانية، فحفظه ثم نسيه.
ثم حاول الأب لمرة ثالثة، والحمد لله تمكن طه من الحفظ الجيد.
هل رضى الأب؟
كيف يرضى وحلمه بأن يصبح ابنه الكفيف عالمًا لم يتحقق بعد؟
ولذا دفع به إلى أستاذ يعلمه فن التجويد، ثم دفع به لأستاذ يقرأ عليه ألفيه ابن مالك في النحو، ثم يحفظها على يديه، حتى إذا ذهب إلى الأزهر كان مسلحًا بالقرآن وبالألفية.
لولا هذا الأب المجاهد العظيم ما عرف طه من القرآن والنحو ما عرف، ولولا قصة طه مع القرآن ما تمكن من اللغة تمكنه المعروف وما كان له الأسلوب العذب الذي يأتيك بالخير.
معاشرة العميد للقرآن هي التي فتحت له أبواب اللغة وطبعت أسلوبه بأسلوب القرآن، فهو يرق في ساعة الرقة ويشتد في ساعة الشدة ولا يضع السيف موضع الندى ولا يضع الندى موضوع السيف.
فإن كنا نفخر بالعميد ونغترف من علمه فواجب علينا أن نشكر ذكرى أب رقيق الحال كثير العيال كان يجاهد لكي يعلم أولاده حالمًا لهم بمستقبل مشرق يسودون فيه، وقد حقق الله له أحلامه.
أخبار متعلقة :