نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
محمود الماطري: من مفكر المقاومة إلى مهندس منظومة الصحة العمومية, اليوم الخميس 12 ديسمبر 2024 04:00 مساءً
نشر بوساطة الحبيب الميساوي الموسوعة التونسية في الشروق يوم 12 - 12 - 2024
تحيي غدا تونس الذكرى 52 لوفاة الزعيم الراحل الدكتور محمود الماطري وبهذه المناسبة الوطنية الخالدة، تتشرف عائلة المرحوم بدعوة الجمهور العريض لحضور فعاليات إحياء هذه الذكرى المجيدة وحفل التكريم الذي تشرف عليه وزارة الصحة وذلك يوم الجمعة 13 ديسمبر2024 على الساعة العاشرة صباحا بمستشفى محمود الماطري بأريانة و سيتم بالمناسبة تدشين التمثال الذي يجسد هذه الشخصية الوطنية المرموقة تكريما له كرمز اصطبغ نضاله بالحركة الوطنية الذي قاوم المستعمر الفرنسي وشارك في بناء الدولة الوطنية من خلال وضع أسس المنظومة الصحية التونسية كأول وزير للصحة في دولة الاستقلال.
ولد السياسي محمد بن المختار بن أحمد الماطري بتونس العاصمة في ربض باب الجزيرة في أواخر ديسمبر 1897، وقد عاش منذ نشأته يتيما إذ توفيت والدته حين وضعته كما توفّي والده بعد ولادته بعشرة أشهر. وقد أورد الدكتور الماطري في سيرته الذاتية أنّ جدّه الأوّل كان إنكشاريا قدم إلى تونس حوالي سنة 1680 في عهد محمّد باي الثاني المرادي وكان يحمل اسم محمد السطنبولي التركي. أمّا والدته فهي تنحدر من عائلة فارح الأندلسيّة التي احترفت صناعة الشاشية والتي استقرّت بتونس في عهد عثمان داي (بداية القرن السابع عشر). وبعد التحاقه بكتّاب الحيّ (نهج عبّه) حيث شملت دراسته مبادئ اللغة العربية وحفظ القرآن واستغرقت سنتين، زاول الماطري دراسته الابتدائية والثانويّة بالمعهد الصادقي من سنة 1905 إلى 1916، وإثر حصوله على ديبلوم الصادقية، اشتغل معلّما بضاحية المرسى طيلة سنتين وكان في الوقت ذاته يعدّ نفسه لاجتياز الجزءين الأوّل والثاني من الباكالوريا (رياضيات)575 ونجح في الامتحانين تباعا سنتي 1918 و1919.
التحق الماطري بعد إحرازه الباكالوريا بكليّة العلوم بمدينة ديجون (DIJON) الفرنسية بغية الحصول على الإجازة في العلوم. ونظرا إلى الظروف الاجتماعية الصّعبة التي كان يكابدها، باشر مهمّة قيّم بمبيت المعهد الثانوي بديجون ثم بالمدرسة التطبيقية للتجارة. وفي سنة 1923، واصل دراسته العالية بالسنة الرابعة طب بكلية باريس، ومكّنته شهادات الاجازة في العلوم التي حصل عليها من كسب رزقه بإلقاء الدّروس في المدارس الثانوية الحرّة (المدنية أو الدينية) خارج أوقات دراسته أو عمله بالمستشفى، وباشر التدريس خاصة في المعهد التجاري بفنسان (VINCENNES). وفي شهر جويلية 1926 حصل الماطري على شهادة الدكتوراه في الطبّ بملاحظة "مشرّف جدّا" ورجع نهائيا إلى أرض الوطن في شهر نوفمبر من السنة نفسها. وكان الطالب الماطري في أثناء إقامته الطويلة بفرنسا التي استغرقت ثماني سنوات مواكبا للحياة السياسية والاجتماعية والتحوّلات التي طرأت في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. ولا غرابة في أن يبدي تعاطفا مع تنظيمات اليسار الفرنسي التي كانت تؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها، حيث انخرط وناضل في تشكيلات رابطة حقوق الإنسان والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وأصدر الكثير من المقالات بأسماء مستعارة تارة (M.E.MARIET) وأخرى (ABDEL HAK).
وإثر عودته إلى تونس في أواخر 1926 واصل الماطري نشاطه السياسي بعد أن فتح عيادة طبية بباب منارة، وانخرط لأوّل مرة في نشاط الحزب الحرّ الدستوري التونسي لمّا استدعاه بعض أعضاء اللجنة التنفيذية في مارس 1927 لحضور الاجتماع الذي ينظم كلّ سنة احتفالا بذكري التأسيس. ومنذ هذا التاريخ، اقتنع محمود الماطري بضرورة التوسيع في قواعد الحزب والخروج من حالة الرّكود. وكان من آليات تفعيل الحركة السياسية، استغلال توتر العلاقة بين السلط الاستعمارية والأهالي المحليين فانتهز فرصة منع الشرطة الفرنسية لنشاط اللجنة التي تأسّست لإعانة الطلبة التونسيين وكتب مقالا نقديا للحضور الاستعماري نشره بجريدة صوت تونس "LA VOIX DU TUNISIEN" الأسبوعية التي كان يديرها الشاذلي خير اللّه وذلك بعنوان:"EST-CE UNE OFFENSIVE CONTRE L'INSTRUCTION DES TUNISIENS?". "هل هي حملة ضدّ تعليم التونسيّين؟". ولقي هذا المقال صدى واسعا لدى القرّاء الذين كسب ودّهم وتعاطفهم ووجّهت الأوساط الثرية بعض التبرّعات لدعم مشروع إعانة الطلبة مزكّين بذلك أفكار الدكتور الماطري.
وواصل الدكتور محمود الماطري نقده "للحماية" ورموزها. فقد انتقد سياسة المقيم العام بيروطون بنشره مقالا في "L'ACTION TUNISIENNE" بعنوان "ما أشبه اليوم بالبارحة"، وكان ردّ فعل المقيم العام نفي محمود الماطري إلى الجنوب التونسي (مدنين، بن قردان، برج لبوف) حيث قضى حوالي 3 سنوات مبعدا وحيث التقى بالأخوين محمّد والحبيب بورقيبة ثم انضمّ إليهم يوسف الرويسي. ونتيجة لموجة من الاعتقالات، تتالت المظاهرات الاحتجاجية كتلك التي قادها بعض ممثلي اللجنة التنفيذية وانضمّ إليهم كلّ من الطاهر صفر والبحري قيڨة وقد أخذا الكلمة أمام قصر الباي بالمرسى متحدثين عن اعتقال زملائهم وتعسّف سلطة "الحماية"، وكذلك المظاهرة التي نظمّ ها كلّ من صالح بن يوسف والطاهر صفر داخل جامع الزيتونة في غرّة جانفي 1935، وقد أدّت إلى اعتقال الطاهر صفر الذي نُقل إلى جرجيس والبحري قيڨة إلى مدنين وكلّ من علي بوكرداغة ومحمد الحبيب بوقطفة إلى بن قردان حيث التقيا بالدكتور الماطري.
وعلى عكس رفاقه من الديوان السياسي، فقد كان الدكتور محمود الماطري مؤيّدا الشيخ عبد العزيز الثعالبي لمّا عاد إلى تونس في جويلية 1937 ومنتقدا الانشقاق الحاصل في صلب الحزب الحرّ الدستوري وملحّا على ضرورة الوفاق لضمان وحدة الصف داخل الحركة الوطنية. وبعد أن سافر الماطري إلى فرنسا يوم 12 جويلية 1937 قابل "أرمان غيون" وأطلعه على الأوضاع بتونس، عاد في سبتمبر 1937 في مرحلة بلغ فيها الصّراع أوجه بين اللجنة التنفيذية والديوان السياسي. وقد اغتنم حضوره في مؤتمر نهج "التريبونال" أيام 30 أكتوبر - 2 نوفمبر 1937 ليلقي خطابا ركّز فيه على وحدة الحركة السياسية حتى يكون لها تأثير لدى الأوساط الاستعمارية لا سيّما المتطرفين منهم، كما أصرّ على ضرورة الاعتدال في المطالب الوطنية، إذ لم يكن موافقا على ذكر مصطلح "الاستقلال" باللائحة السياسية التي صدرت عن المؤتمرين. ويبدو أنّه منذ ذلك التاريخ بدأت تتّسع الهوّة بين الشقّ المعتدل الذي يمثّله الماطري والشقّ الراديكالي الذي يمثّله الزعيمان بورقيبة وصالح بن يوسف.
وقد تجلّى هذا الخلاف بكلّ وضوح لمّا طالب الشقّ الراديكالي تنظيم إضراب يوم 20 نوفمبر 1937 تضامنا مع الشعبين المغربي والجزائري إثر اعتقال الزعماء الوطنيين، ورفض الدكتور محمود الماطري فكرة الاضراب العام معارضا أطروحة تصعيد النضال لاجبار سلط "الحماية" على تقديم تنازلات كان الزعيم بورقيبة ينشدها ولم تقنعه إستراتيجية العمل التي اقترحها الماطري، بلغ الأمر أقصاه ففضل محمود الماطري الاستقالة بتعلّة المرض، منقطعا بذلك عن كلّ نشاط سياسي (وردت في رسالتين: الاستقالة الأولى أواخر ديسمبر 1937 ورسالة الاستقالة الثانية في 13 جانفي 1938)، إلاّ أنّ هذه الاستقالة لم تمنع الدكتور محمود الماطري من الحضور إلى جانب الفئات الشعبية لمّا اندلعت مظاهرة 8 أفريل 1938 التي انطلقت من رحبة الغنم (معقل الزعيم) لتمر من باب جديد، لكنّه كان دائما مصرّا على مبادئه الهادفة إلى عدم المواجهة تجنبا لإراقة الدماء، وذلك بحكم اختلاف موازين القوى بين الشعب الأعزل والقوات الاستعمارية. وقد خطب محمود الماطري أمام الجماهير المتظاهرة محاولا تهدئة الأوضاع، إلى حدّ أنّ اعتبره البعض "المنظّم الروحي" للجماهير وربّما لقيت هذه النزعة المعتدلة قبولا لدى بعض الشخصيات الدستورية مثل الطاهر صفر الذي أبدى في اليوم الموالي تأييده لما نادى به محمود الماطري، وكذلك الشأن بالنسبة للأوساط الاستعمارية، فقد استقبله المقيم العام "غيون" وكلّفه بالاتصال ببورقيبة والعمل على إقناعه بالتراجع عن تنظيم مظاهرة يوم 9 أفريل 1938. لكن ّ بورقيبة امتنع مصرّا على رأيه، وقد جرت أحداث دامية جرح وتوفّي خلالها عديد المناضلين الذين زارهم الماطري بالمستشفى الصادقي مقدّما لعائلاتهم بعض الاعانات. ولمّا عوّض إيريك لابون (ERIC LABONNE) المقيم العام "غيون" في 24 أكتوبر 1938 تمّ استقبال الدكتور محمود الماطري في فيفري 1939. فاغتنم الفرصة للتفاوض معه حول مسألة إطلاق سراح المعتقلين ورغم زيارته له عديد المرّات فإنّه لم يتمكّن من إقناعه. وكان أيضا من العناصر التي استدعاها الأميرال استيفا (ESTIVA) عند قدومه إلى تونس معوّضا (E.LABONNE) في خضمّ الحرب العالمية الثانية (جويلية 1940) واستفسر محمود الماطري عن أوضاع المعتقلين ومكان إبعادهم (مرسيليا).
ولقد شكّل اعتلاء المنصف باي العرش الحسيني في جوان 1942 حدثا بارزا في حياة محمود الماطري الذي جمعته به معرفة خاصة عندما كان الماطري معلّما بالمرسى يعطي دروسا خصوصية لأحد أبناء المنصف باي. وقد استدعاه الباي في اليوم الثاني من تنصيبه وعيّنه رئيس أطبّائه. وطلب منه أنّ يعدّ رفقة محمد سعد اللّه والصادق الزمرلي مشروع مذكّرة تلخّص الاصلاحات التي سيتمّ عرضها على حكومة الماريشال "بيتان". ولعلّ هذه الأبعاد الوطنية التي ميّزت محمود الماطري هي التي شجّعت المنصف باي لمّا شكّل حكومة جديدة (ديسمبر 1942) على تعيينه وزيرا للداخلية، وكان محمد شنيق وزيرا أكبر وصالح فرحات وزيرا للعدل. وبعد خلع المنصف باي، نشط محمود الماطري ضمن ما يسمّى "الحركة المنصفية" مطالبا بإرجاعه موجّها صحبة رفاقه برقية احتجاج إلى كلّ من رئيس الجمهورية الفرنسية VINCENT AURIOL ورئيس الوزراء PAUL RAMADIER ووزير الخارجية GEORGES BIDAULT.
وكان محمود الماطري من المشاركين في مؤتمر ليلة القدر (23 أوت 1946) والمساهمين في إنجاحه، فتمّ رفع شعار "الاستقلال" لأوّل مرّة، رغم اقتحام قوات الأمن لمقرّ الاجتماع حيث تمّ اعتقال كلّ من محمد شنيق ومحمود الماطري ثمّ أطلق سراحهما. وعلى إثر اعتلاء الأمين الباي العرش تشكّلت حكومة شنيق الثانية بعد فشل حكومة الكعاك (1950) فعيّن محمود الماطري وزيرا للداخلية وأصبحت هذه الحكومة تسمّى ب "التفاوضية" وحرص وزيرها الأكبر محمد شنيق على أن تكون امتدادا لحكومته الأولى فكانت بذلك حكومة جبهة وطنية إذ ضمّت عناصر دستورية جديدة مثل صالح بن يوسف الذي عيّن وزيرا للعدل.
وقد كان محمود الماطري راضيا عن إصلاحات 8 فيفري 1951 التي سنّها المقيم العام لوي بيريي LOUIS PERILLIER. وأمام تصلّب الحكومة الفرنسية أدان الماطري مذكرة 15 ديسمبر 1951 مثله مثل الزعيم بورقيبة واعتبرها إيذانا باندلاع مرحلة جديدة في الكفاح الوطني. وقد تزامن ذلك مع تعيين المقيم العام الجديد جان دي هوتكلوك JEAN DE HAUTECLOQUE الذي حلّ بتونس يوم 13 جانفي 1952 وقد عرف بغروره وتعسّفه وهو ما ساعد على اندلاع المقاومة المسلّحة بعد خطاب الزعيم بورقيبة ببنزرت (13 جانفي 1952).
وكان من نتائح ذلك أن أمر المقيم العام باستقالة الوزير الأكبر. واعتقل يوم 26 مارس 1952 الوزير الأكبر محمد شنيق ووزارءه ومنهم محمود الماطري ونقلهم إلى الجنوب التونسي (قبلي، جبل "فيلبار") ثمّ إلى جزيرة جربة في 11 أفريل 1952 ولم يطلق سراحهم إلاّ يوم 14 ماي 1952 واشترط عليهم ملازمة بيوتهم. إلاّ أن ذلك لم يمنعهم من مواصلة النضال السياسي الوطني في صلب الحزب الدستوري الجديد، وقد كان من مؤيّدي سياسة المراحل الهادفة إلى تطوير العلاقة بين فرنسا وتونس والتدرّج إلى الاستقلال التامّ.
وإثر خطاب منداس فرنس (31 جويلية 1954) تشكّلت وزارة تفاوضية برئاسة الطاهر بن عمار وقد كان الماطري من أنصار الحوار. وممّا يعكس موافقته على اتّفاقيات الاستقلال الداخلي -التي شرع الاعداد لها منذ هذه الفترة - انتخابه رئيسا للجنة العمل الفرنسي التونسي من أجل الصداقة والتعاون يوم 5 أفريل 1955. ونشر الدكتور محمود الماطري مقالا بجريدة "لومند" LE MONDE بتاريخ 6 جويلية 1955 بعنوان "ننتمي كلنا، تونسيّون وفرنسيّون، إلى العالم المتوسطي" مبرزا بذلك النوايا الايجابية للطرف التّونسي الراغب في تحقيق استقلاله في إطار التعاون مع فرنسا. وفي تصريح بجريدة "L'ACTION" حول الاتفاقيات قال الدكتور محمود الماطري: "اعتبر أنّ هذه الاتّفاقيات تفتح إمكانات واسعة، إنّها تمثل خطوة نحو التحرير". وهو ما دعّم مواقف الزعيم بورقيبة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الماطري كان من بين العناصر الفعّالة إثر تكوّن الجبهة الوطنية في انتخابات المجلس القومي التأسيسي (أفريل 1956) ضمن قائمة تونس المدينة التي ضمّت تسعة مرشّحين، وقد أهّله هذا الدّور إلى الاسهام في تحرير نصّ الدستور التونسي. وكانت له مواقف مناصرة للمرأة إذ طالب بحقّها في الانتخاب على إثر تشكيل حكومة الاستقلال في أفريل 1956، وقد كلّف فيها بوزراة الصحّة وحاول الموازنة بين الجهات في إنشاء المؤسسات الصحيّة. وتميّز الدكتور الماطري باستقلالية مواقفه إلى أن انسحب من الوزارة في 29 جويلية 1957 حيث قرّر بنفسه وضع حدّ لكلّ نشاط سياسي. وتوفّي يوم 13 ديسمبر 1972 ودفن بمقبرة الزلاّج بالعاصمة مخلّفا رصيدا نضاليا وطنيا، بدءًا بالعمل الصحفي (قرابة مائة مقالة) ثمّ الجمعياتي فالحزبي فالحكومي.
لم يقع قبول محمود الماطري في مؤسسات الصحة العمومية مثل معاصريه من الأطباء التونسيين، ففتح عيادته بنهج باب منارة بالعاصمة في منطقة شعبية. وقد استمر يشتغل طبيبا بعد ذلك. وهو الطبيب الخاص للباي المنصف باي، وكلف في عهده بقطاع الصحة العمومية. وأسندت إليه بعد الاستقلال وزارة الصحة العمومية. من جهة أخرى ترأس محمود الماطري ودادية الأطباء التونسيين في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات ثم بعد الاستقلال آلت إليه رئاسة عمادة الأطباء التونسيين.
وتخليدا له ولدوره الوطني أطلق اسمه على مستشفى أريانة بالعاصمة.
الأخبار
.