إفيه يكتبه روبير الفارس:"العطر يا ولد"

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لا يمكن أن تنسى أبدًا دور المخرج والفنان المتميز "نور الدمرداش" إذا شاهدت فيلم "عنتر بن شداد" للمخرج نيازي مصطفى، في هذا الفيلم، قدم دور "عمار الزيادي"، الذي كان طوال الفيلم ينادي خادمه قائلًا: “هات العطر يا ولد”، وقد جسدت شخصيته بالفيلم النقيض "الخرع" و"المسبسب" و"المعطر"، أمام رجولة وقوة "عنتر"، حتى أن "عبلة" وصفته بأنه أجمل "عروسة" لا "عريس" تقدم لها.

"عمار الزيادي" مقهور في داخله، ضعيف في كيانه، مهزوم في حياته، مسروق في حلمه، ويواجه ذلك بالتعطر المستمر ليداري نتانة قلبه وضعف بنيانه وبشاعة مستقبله، وهو لا يتورع عن استخدام أي حيلة، مهما كانت قذرة، للفوز بعبلة، حتى لو كان ذلك بتشويه سمعتها. وعندما يظهر على حقيقته ويقع في أسر من هو أغنى وأقوى منه، "مفرج بن همام"، يذهب سر قوته الظاهرة، "عطره"، وتتجلى حقيقته المرة؛ عبد حقير ذليل يُضرب ويهان، ويصبح همه “أكل الفطير والنوم على السرير”، هذا "الكاركتر" المكتوب بعناية، والذي قدّمه "نور الدمرداش" بمهارة فائقة، يمكن أن نتعامل معه بإسقاط خاص وقراءة أخرى، تنقب في مجتمعنا المأزوم وواقعنا البائس.

في هذا المجتمع، يتجلى الخواء الداخلي والفراغ العقلي والقهر الزمني والفقر المدقع والضعف الكامن في الروح لذلك، كان لابد من البحث عن عطر للتعطر والكذب به، لعله يخفي ثقوب الكيان المهزوز، وكأن الأصوليين من السلفيين وحماة الإيمان قد التقطوا صوت "عمار الزيادي" وهو "يفشر على عبلة" بادعاء حمايته للديار، فصاروا على نهجه، بادعاء حماية الإيمان والتصدي لكل من يفكر ويسأل.

ولتكتمل الصورة، أصبح "التدين الشكلي" هو "العطر" الذي يطلبه الجميع، لأنه سهل جدًا، مجرد مظاهر لتجميل الشكل وإخفاء رائحة “المقابر المتحركة”، وما أسهل أن يكون العطر جلبابًا أبيض أو أسود، وذقن طويلة، أو سبحة في اليد، أو صليبًا في الرقبة، أو آيات تتردد بشفاه من قلب شارد، أو ميكروفون مرتفع يزعج المرضى ويشتت الأذهان، أو أيقونات على ظهر وسائل المواصلات وأسماء قديسين وأولياء صالحين، وصوت مرتفع يُهرطق فلانًا وعلانًا، ومواظبة شكلية على طقوس يومية، أجساد مغطاة ونفوس داعرة.

كل تلك "العطور" المتداولة حولك، في آيات محفوظة، وأقوال منغمة، وسلوكيات زائفة. جعلتنا الاكثر تدينا وفسادا في أن واحد والإقبال المنقطع النظير على هذه "العطور" من كل الجماهير والفئات، رفع تاجر العطور إلى مكانة عليا وجعله حاكمًا على الأرواح، وعالمًا في كل المجالات، متحكمًا في الأكل والنوم والحركة، يعرف كل الأشياء في الأرض والسماء، كأنه وبمجرد وضع عمته على رأسه، اتصل بمحركات البحث الغيبية في المجرات المرئية وغير المرئية، وعطره لا ينقطع، ومن كل الأنواع، يتاجر به في كل الأوقات فقط تطلب، تجد، ورغم كل هذا العطر المسكوب على الأرض، مقابل ملايين الجنيهات ولمعان المباني الضخمة والفخمة، ورغم زكام الأنوف بأطنان العطور، ما زالت الحقيقة ساطعة والموت قادم. حتى لو نادى "عمار"، وقد اخترق السهم قلبه، على "الولد" قبل النفس الأخير يطلب العطر.

إفيه قبل الوداع

 يا ولد، هات العطر
 عفوًا، لقد نفد رصيدكم

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق