نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الحيوانات الرقمية, اليوم الجمعة 29 نوفمبر 2024 12:49 صباحاً
نشر بوساطة عبد الرحمن بن عبد الله الشقير في الرياض يوم 29 - 11 - 2024
تتقدم التقنية ويتقدم معها رقمنة كل شيء من حولنا بشكل سريع ومهيمن، فالعصر الرقمي متجه لابتلاع الإنسان الحيوان والنبات والجماد، وبدأ مشروع استبدالها بإنسان آلي وحيوان آلي وتحرير جيني، وقد أثرت الحيوانات الرقمية على الحياة من حولنا بشكل كبير يستدعي التعرف عليه وتحليله.
يطلق مصطلح الحيوان الرقمي (digital pet) على ثلاث مستويات، يطلق على كل مستوى منها هذا المصطلح، وتلك المستويات هي:
الأول: الحيوان الافتراضي (virtual pet)، وهي بيئة معيشية متكاملة للقطط والكلاب الافتراضية، وتحاكي الواقع ولكنها مصممة على تطبيقات التواصل الاجتماعي وتتفاعل مع مستخدمها، مما يمنح المستخدمين تجربة تفاعلية.
والثاني: الميمات والإيموجي، ويبرز دورها في محادثات تطبيقات التواصل بوصفها أدوات تعبير، واستبعدت هذين المستويين لأهمية تخصيص مقالة لكل منهما.
والثالث: الحيوانات التي لها حسابات معروفة على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وتسمى في بعض المراجع «الحيوانات المؤثرة» أو «مشاهير الحيوانات على الإنترنت»، وهي موضوع المقالة.
برزت كلاب وقطط مشاهير على تطبيقات التواصل المرئية، مدربين على أداء أدوار اجتماعية مبهرة، ولهم ملامح جميلة، ويعيشون أدوار المقالب المضحكة والمواقف المفتعلة، كما يفعل المشاهير، وحققت مشاهدات عالية ومتابعات مليونية، ووصل بعض الحسابات إلى أكثر من مئة مليون متابع، عادت بالمكاسب المالية على مربيهم، وشجعت على توسيع ثقافة تربية القطط والكلاب بعد أن حسنت صورتها الذهنية، وأصبحت رمزًا لمفهوم الحيوان الرقمي.
وألهمت الفكرة كثيرًا من الناس في مختلف أنحاء العالم لتوظيف كلابهم وقططهم لصناعة محتوى لحساباتهم، وقد أصبحت مصادر دخل أساسية لهم.
ويعتبر الكلب «ويني» من أشهر الكلاب على انستغرام وتيك توك لملامحه الجميلة التي يكتفي بعرضها على متابعيه.
والكلب «بوباي» الذي عانى من التشرد في الشوارع بعد إهمال أصحابه له، عاد للشهرة، وأصبح يأكل في أفخم المطاعم.
وانعقد مؤتمر مطوري فيسبوك في مايو 2018، ودعا مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك نجم انستغرام للصعود للمسرح، فتقدم الكلب «جيف بوم» محمولًا على كرسي وطاولة لوصول متابعيه لأكثر من عشرين مليون متابع.
واشتهر حساب صيني يعرف بالكلب الذكي لشخص يعيش مع كلبين من فصيلة غولدن ريتريفر المعروفة بالحس الاجتماعي الرفيع واللطافة والتفاعل الذكي مع البشر، ومعهم جدته العجوز، ويفتعل مواقف كثيرة يظهر فيها أنانيًا وعدم برّه بجدته، فيتولى الكلبان تقريعه وطرده من المكان أو أخذ طعامه منه وتقديمه للجدة، ولهذا الحساب أكثر من مئة مليون متابع على تيك توك فقط.
واشتهر مقطع لكلب غولدن ريتريفر يأخذ سلة خضار من المنزل وبداخلها مبلغ من المال، وذهب إلى السوق، واشترى خضارا، وعاد للبيت.
وللقط حضور كبير على تطبيقات التواصل، ومن أشهرهن «سوكي» و»كيميرا» و»جرامبي» وغيرهن كثير.
وتكمن المحاذير في بناء صور مثالية في أذهان الأطفال عن اللطافة الدائمة في سلوك القطط والكلاب، وعجزه عن تكوين صورة شمولية عن أضرارها وأمراضها ومراحل تدريبها وتنظيفها وعلاجها وأنواعها واختلاف غرائزها.
ومن المحاذير أيضا كثرة التصاق أصحاب الحيوانات بها والتصوير معها والتأكيد الدائم على أنها أوفى من البشر وتكرار المقارنة بين قيم الإنسان والحيوان، وقد لوحظت هذه الظاهرة في كثير من حسابات منصات التواصل المرئية أثناء جائحة كوفيد- 19 (كورونا) بعد قرارات الحظر الكلي، وهذا أحد أشكال الانسحاب الاجتماعي وعدم القدرة على التكيف مع الحياة الاجتماعية رغم ما فيها من تناقضات وتحديات.
والحيوان الرقمي موجود في السعودية بشكل يميزه عن غيره؛ إذ يوجد حسابات سعودية كثيرة معنية بتربية الإبل والخيول في بيئتها الصحراوية ومرابط الخيل، وهي من الاهتمامات النخبوية، ثم صارت من اهتمامات الطبقة الوسطى، وانتشر تصويرها ونشر ثقافة سلوكها والتعامل معها.
وقد أكد بعض ملاك الخيول وبعض الدراسات وكثير من تعليقات المشاهدين على فعالية ركوب الخيل في التعافي من مرض التوحد، وتأثير متابعة مقاطع الكلاب والقطط اللطيفة على التعافي من الاكتئاب وتحسين المزاج وإثارة الدهشة.
إلا أن حسابات الإبل والخيول لا تحظى بمشاهدات عالية لعدم توفر عنصر التفاعل والبهلوانية لدى الإبل والخيول كالتي تتوفر لدى الكلاب والقطط، ولعدم التركيز على حصان واحد أو جمل واحد وإشهاره.
كما يوجد حسابات معنية بإنقاذ قطط الشوارع والدعوة لتبنيها بدل الشراء، ونشر ثقافة إطعامها وعلاجها، ومنها حسابات كثفت جهودها على القطط المشردة، وهي حسابات ذات قيم إنسانية رفيعة وجديرة بالدعم ولكنها تاهت في ضجيج الإثارة.
ويوجد قاسم مشترك بين هذه الحيوانات، تتمثل في مسابقات جمال الإبل والخيول والكلاب والقطط، وأصبح ينعقد لها مهرجانات موسمية وتتشكل اللجان وتوضع المعايير، وتحظى بمشاهدات عالمية، وتحولت إلى أسواق اقتصادية ضخمة، تتابعها منصات رقمية تحظى بمشاهدات عالية.
من أشهرها: مسابقة كات شو التي ينظمها الاتحاد العالمي للقطط WCF مع جمعية القطط في الشرق الأوسط، ونظمت هيئة الترفيه السعودية مهرجان دولي لجمال الكلاب، وأحدث جدلًا وسعًا في موسمه الأول لعدم الاعتياد عليه، وأصبح متقبلًا فيما بعد، أما الخيل والإبل فلها مهرجانات ومسابقات جمال موسمية منذ سنوات طويلة.
وبرزت مؤخرًا في الخليج ظاهرة تربية الأسود والنمور والذئاب في المنازل للتمايز الاجتماعي وتصويرها وصناعة مقالب على الضيوف بإدخالها للمجالس وإرهاب الحضور لإضحاك المشاهدين.
وهذا تحول خطير وسلوك مناهض لبيئة الحيوانات المفترسة ولبيئة الإنسان، وانتهاك لحقوق البيئة وتربية الحيوان على غير سلوكه وغريزته، وقد شاهدنا حالات إطلاق نار على أسود وقتلها عندما تحركت غريزتها وقتلت مروضها.
وتندد جمعيات حقوق الحيوان باستخدام الحيوانات وإرغامها بالضرب أحيانًا على صناعة محتوى ضاحك أو مبهر لأغراض التكسب وزيادة المشاهدات، ولكن صوتها لم يصل للعالم العربي؛ لانشغاله بالتنديد باستخدام الأطفال والمسنين والمعاقين لصناعة المحتوى، وهي انتهاك للأسرة وحقوق الفئات الاجتماعية الهشة، أكثر فداحة من انتهاك حقوق الحيوان.
وهذه المفارقات بين الحيوانات الرقمية المشهورة وغير المشهورة تؤكد على ما سوف أسميه مؤقتًا «وحدة السلوك الرقمي»، المتمثلة في الالتزام بسياسة النشر على تطبيقات التواصل المرئية، وأشهرها انستغرام وتيك توك، مع وجود علاقة تعاقدية ضمنية غير مكتوبة بين الحسابات على تطبيقات التواصل والمشاهدين، تتركز حول الإضحاك وإثارة الدهشة مقابل المشاهدات والشهرة والمال.
فاستعراض الجسد وإبراز جماله وخفة الدم للإنسان والكلاب والقطط كلها ذات سلوك رقمي واحد، يتضمن الإعداد للمشهد الذي يعتمد على إثارة العاطفة والعرض على تطبيقات التواصل، ثم المشاهدات المليونية، ثم الشهرة وتحقيق الأرباح، ثم التعرض للملاحقة وطلبات التصوير معها في الأماكن العامة، ويتميز عنها الإنسان باكتساب أدوار اجتماعية جديدة، بسبب تأثيره الكبير الذي يمنحه قوة نقل الأفكار والعادات، مما يمنحه وجاهة في المجتمع.
فالعامة تتمركز حول الشهرة وما اعتادت العين على رؤيته وأحبته؛ لذلك تلتقط صورًا شخصية مع المشاهير الذين يظهرون على الشاشة كالرجال والنساء والأطفال والكلاب والقطط، ولا يعنيهم كثيرًا من أدار الحساب وصوّرهم، وأنتج اللقطات.
ومن الجدير ملاحظة أن سلوك الكلاب علم واسع لا يقوم به إلا العلماء، وملاحظة واحدة كفيلة بإنتاج نظرية علمية، مثل ملاحظة إيفان بافلوف سيلان لعاب الكلب كلما جاء طعامه، وكان مجيء الطعام مرتبط بقرع جرس الباب، فصار لعاب الكلب يسيل إذا قرع الجرس حتى ولو لم يحضر الطعام، فظهرت نظرية «المثير والاستجابة»؛ حيث توجد مسافة فراغ كبيرة بين المثير الذي يمثل الموقف وأنواع الاستجابة المتعددة لهذا الموقف، واختيارنا لنوع الاستجابة هي التي تحدد مستوانا الاجتماعي والثقافي وفيها يكمن البؤس والسعادة.
وجوهر نظرية بافلوف يؤكد على أن الاستجابة المحددة لمثير معين تستدعي بالضرورة المثيرات الأخرى المشابهة للمثير الأصلي بشكل متكرر تلقائيًا، ومن هذه الملاحظة نجد تكرار استجابة المتابعين للمواقف التي يثيرها صاحب الحساب لإبقاء العاطفة متوهجة، سواء عواطف إثارة الضحك أو البكاء؛ لأن الاستجابة ستكون دعم الحساب والبقاء على حالة متابعة.
وأحد أوجه الملاحظة أن كثيرًا من فصائل الكلاب خاضعة للمراقبة والتصوير على مدار الساعة، بما فيها الحساب الشهير بين كلب وسيدته التي تأمره في كل مرة يكونان فيها أمام طعامهما، ألا يأكل حتى تعود، وتتعمد الذهاب بعيدًا ومراقبة الكلب وهو ملتزم بأمرها ويصد وجهه عن طعامه حتى لا يراه، والمشاهدين يتعجبون من براعة المشهد، وهي في الواقع حالة تستدعي الملاحظة العلمية وحقل تجارب للمتخصصين لاستكشاف سلوك الحيوان ومشاعره ومقارنتها بسلوك الإنسان، وليس الدهشة والإعجاب فقط كما هو الواقع.
مثل هذه الملاحظات مؤشر على تشتت فكر الإنسان العادي وتساوي عقول كثير من الصغار والشباب والكبار، وظهور أجيال تستنزف حياتهم وتركيزهم على التطبيقات التفاعلية، مما يمنعهم من تأسيس خبرات حياة وبناء علاقات إنسانية صلبة.
وقد يتوهم الإنسان العادي أنه لا يشاهد التطبيقات إلا في أوقات فراغه، ولكنه قد لا يعلم أن أوقات فراغه تمثل ثلثي يومه، وأن طول مدد المتابعات تستهلك تفكيره وتعيد رؤيته لحياته.
ختاما.. نلاحظ في دعوة الكلاب إلى حضور الفعاليات الاجتماعية وتكريمها بصعود المنصة لشهرتها دون الاهتمام بالإنسان الذي صنع هذا المحتوى دليل على تغير الأدوار الاجتماعية بين الإنسان والحيوان؛ فالحيوان كان له دور اجتماعي يتمثل في الحراسة والصيد والمساعدة في الرعي، ثم أصبح له أدوار اجتماعية أساسية في العالم الرقمي ومصدر دخل مالي تتجاوز ما تعارفنا عليه من علاقة الانسان بالحيوان.
وفي هذا مؤشر خطير عن تنازل الإنسان عن صدارة المشهد الاجتماعي بوصفه الكائن الأكثر وعيًا، لبعض الحيوانات لمجرد أنها أصبحت مصادر دخل مادي له. وهذا ينذر باستعداد الإنسان للتنازل عن أدواره وقيمه من أجل المال.
كما تنطوي خطورة مثل هذا السلوك البشري تجاه الحيوان أن يتحول إلى موروث ثقافي في المستقبل، ويقضي الإنسان أكثر أوقاته في تربية الحيوان وصناعة محتوى مشترك معه ومرافقته للمناسبات الخاصة بشكل يضر بالعلاقات الإنسانية بين البشر.
د. عبدالرحمن بن عبدالله الشقير